انفرط العقد الاجتماعي لكرة القدم فهل يمكن نظمه؟
وصف چان چاك روسو العقد الاجتماعي بأنه اتفاق بين أفراد أو مجموعات في مجتمع قائم على تحقيق مكاسبهم المتبادلة وبقائهم على قيد الحياة؛ فيتخلى الأفراد المشاركون في العقد الاجتماعي عن حرياتهم الفردية لمجموعة جماعية. تتخذذ المجموعة قرارات بناءً على الإرادة العامة لهؤلاء الأفراد. في هذا العقد، يرغب الأعضاء في جعل العقد مفيدًا للجميع لأن جميع الأعضاء يعتبرون متساوين، فمثلا الحكومة تستمد سلطتها من خلال موافقة المحكومين.
إذا ما أردنا تطبيق مفهوم العقد الاجتماعي لدى روسو على فرق كرة القدم وقواعد معجبيها، تمثل الحكومة الفريق نفسه، وأولئك الذين يحكمون هم المشجعون. تعد العلاقة متبادلة بين هذين الكيانين، فالتزام الفريق هو تقديم الأداء الجيد مقترنًا بالفوز تارة والتحفيز أثناء الإخفاقات تارة أخرى بينما يكمن التزام المشجعين هو دعم الفريق من خلال حضور المباريات وشراء منتجات الفريق الخاص بالنادي الذي يدعمون. لكن هل لايزال الأمر قابلًا للتطبيق في الرياضة اليوم؟
كأن فرويد يحدثنا عن جمهور كرة القدم.
تحدث عالم النفس البارز سيجموند فرويد عن خصائص الجمهور النفسية في كتابه "علم نفس الجماهير"، وذكر عدة خصائص لا يمكن المرور عليها كمن يقلب صفحات كتاب ما قبل أن يقرأه. يتصف الجمهور بتلاشِي الشخصية الواعية، وهيمنة الشخصية اللاواعية، وتَوجّه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، فيصبح الفرد داخل مجموعة الجماهير تلك، إنسانًا آليًا ما عادت إرادته الحرة بقادرة على أن تقوده.
يكمل فرويد بأن الجمهور هو أدنى مرتبة من الإنسان المُفرَد الذاتي فيما يخص الناحية العقلية والفكرية، ولكن يمكن لذلك الجمهور أن يسير نحو الأفضل، وهذا يعتمد على الطريقة التي يتم تحريكه بها. لم يكتفِ بذلك فرويد، بل أكمل حديثه بأن الجمهور لا يمكن تحريكه والتأثير عليه إلا بواسطة العواطف المتطرفة والشعارات الرنانة العنيفة، وكذلك التكرار دون إثبات أي شيء عن طريق الحجج العقلانية والجمهور لا يعرف إلا تلك العواطف البسيطة.
الغائب والمُتكلم بين عشاق الرياضة فما الفرق؟
حدد علماء النفس نوعين من ردود الفعل لدى محبي الرياضة تجاه أداء فرقهم وتكشف عن سلوكياتهم ذات الصلة بهذا الفريق. الأول، وهو ما يُسمى "Birging"، أي ظاهرة "التشمس في المجد المنعكس". عندما يكون أداء الفريق جيدًا، يكون المشجع في حالة نشوة بالفوز ورضا كبير عما حققه فريقه في المباراة. تظهر عدد الأبحاث أنه في اليوم التالي عقب فوز الفريق، يشعر الناس بأنفسهم أكثر وتجدهم يرددون عبارات مثل "لقد فزنا"، و"نحن"، بالطبع لا يقصدون أنفسهم. كلما ازاد احتمالية اتجاه الشخص للعمل تحت مظلة "Birging"، يكون أكثر عرضًة للاحتفاء بذاك الفوز عبر ارتداء ملابس الفريق في اليوم التالي على سبيل المثال.
النوع الثاني وهو "Corfing" أي "قطع انعكاس الفشل." فما لبث أن يخسر فريقك المُفضل إلا وتحاول أن تدفع ذلك الفشل عنك دفعًا. ليس "نحن" من خسرنا بل "هم". ينعكس ذلك السلوك تلقائيًا على سلوك الفرد تجاه فريقه عقب الخسارة؛ فلا يرتدي قمصان الفريق في اليوم التالي ولا يحب الحديث عن المباراة، وإذا صادف وتحدث، فيكون بضمير الغائب وليس المُتكلم. يمثل النوع الثاني المشجعين المتقلبين، حيث تتحدد هويتهم معهم، فلا يحملون اتجاهًا واضحًا في دعم الفريق من عدمه بينما المشجعون الحقيقيون يكونون على قضبان فريقهم مهما تقلبت الأمور ومهما آلت إليه الظروف.
رأت القوى الرأسمالية في هذا الارتباط المتعصب بكرة القدم فرصة عظيمة لجني الأرباح. تحول المشجعون إلى مستهلكين وأندية كرة قدم إلى شركات. تم التلاعب بالعواطف والعواطف المرتبطة بدعم نادٍ لكرة القدم واستغلالها بسرعة لتحقيق أقصى قدر من الأرباح. سواء بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات أو المستثمرين المليارديرات أو عشاق الغسيل الرياضي ، فقد أصبحت أندية كرة القدم وتدفقات إيراداتها المربحة منطقة رئيسية.
السوق الحر وكرة القدم.
تُعرّف الرأسمالية على أنها نظام اقتصادي تتحكم فيه الشركات الخاصة في التجارة والصناعة والأرباح في بلد ما.
أن تكون رأسماليًا، أي أن يكون لديك قدر كبير من رأس المال المستثمر في الأعمال التجارية، وبالتالي تستفيد من من ذاك النظام في تحقيق الأرباح وبالتالي زيادة الثروة.
لا نحتاج للتنويه أن السوق الحر هو المُهيمن الرئيسي على البلد الرأسمالي، حيث النظام الاقتصادي الذي تملي فيه الشركات والشركات الخاصة كلا من الأسعار والإنتاج في منافسة بعضهم البعض؛ والنتيجة هي تدخل حكومي محدود.
ولدت كرة القدم الحديثة في المناطق الصناعية في بريطانيا خلال أواخر القرن التاسع عشر. لقد كانت في السابق أداًة احتياطيًة للهواة النبلاء، لكن هذه الرياضة أصبحت ذات شعبية متزايدة باعتبارها ملاذًا لعمال المصانع المثقلين بالعناء والذين يعانون في ظل الظروف غير المنظمة للرأسمالية في القرن التاسع عشر.
جاء الانقطاع الأخير عن ثقافة الهواة الأرستقراطية مع احتراف هذه الرياضة، حيث سُمح لعمال المصانع الذين أصبحوا نجومًا في عصرهم بدفع رواتبه، وإن كانت متواضعة، من قبل أنديتهم، لإعالة أنفسهم وتعويض ما فاتهم من أرباح. التي تكبدتها من خلال اللعب. من هذه الأصول المتواضعة، انتشرت كرة القدم لتصبح الرياضة الأكثر شعبية في العالم في القرن العشرين.
ومع ذلك، بالنسبة لمعظم حياتها، على الرغم من نجاحاتها، لم تفقد كرة القدم جذورها العمالية والديمقراطية. ظلت النوادي مرتبطة بمجتمعاتها المحلية. جاء غالبية اللاعبين والمشجعين من مناحي الحياة اليومية، ولم يكسب العديد من اللاعبين ما يكفي ليتمكنوا من التقاعد عند إكمال حياتهم المهنية.
لكن شيئًا ما بدأ يتغير في التسعينيات. أصبحت كرة القدم منتجًا في الاقتصاد المعولم حديثًا. ألهم الدوري الإنجليزي الممتاز، الذي اجتذب ثروات جديدة من خلال صفقات حقوق البث التلفزيوني المربحة، نوعًا جديدًا من النجاح الذي يعني أن المال يمكن أن يحول الأندية ذات التصنيف المتوسط إلى قوى عالمية، والتي يمكن أن تحقق ثروة أكبر لأصحابها.
مع هذا، جاء نوع جديد من المالكين، الشخص الذي يدير ناديًا كعمل تجاري. عندما أصبح المال هو الصوت الحاسم في اللعبة، ترك المؤيدون وراءهم. كذلك يمكن للمالكين الذين يتعرضون للعقوبة من قبل جماهير ناديهم البقاء في مناصبهم على الرغم من قلة شعبيتهم.
وقد أدى عدم وجود صوت للجماهير إلى قيام مجموعة منهم بمحاولة الشراء. إعادة بعض من النادي ووضعه في ملكية المعجبين. مهمتهم حماقة. لا يمكنهم أبدًا مضاهاة ثروات المالك؛ لكن غضبهم يسلط الضوء على ما هو مركزي في المشاكل داخل اللعبة: ثقافة غير ديمقراطية.
"لا نريد المزيد من الليستر سيتيز."
الجملة التي قالها أحد المديرين التنفيذيين مجهول الهوية لصحيفة الاندبندنت البريطانية، توضح الهمينة الصارخة للسوق الحر أي الرأسمالية في اللعبة، والهدف من قتل المنافسة وحصرها مع أندية بعينها ليس بينها دخيل ولا نادٍ آخر ممن يمثلون الطبقة المتوسطة أن يتقاسم الكعكة معهم. كانت اللحظة التي توج فيها ليستر سيتي بلقب الدوري تمثل مفترق الطرق لأندية التوب 6 في بلاد الضباب.
عندما ترى فرق مثل ليستر سيتي ووست هام يونايتد يتنافسون مع أندية الستة الكبار في إنجلترا، فهذه تعد بيئة تنافسية مثالية ولكن، لم يقدر أندية القمة في إنجلترا على تحمل مثل هذه البيئة؛ أن يقاسمهم أحد ثروتهم أو تفوقهم، فبدأوا بالتحرك سريعًا لاحتكار كرة القدم في هيئة مشروع "Big Picture" الصورة الكبيرة، ولعدم تكرار ما فعله الثعالب مرة أخرى.
وبالتالي ليس ذلك غريبًا، حتى عام 2020، أشارت عدد من الأرقام إلى أن إجمالي إيرادات أندية التوب 6 يساوي تقريبًا عائدات الأندية الستة وثمانين الأخرى في الدرجات الأربعة الأولى. وكأن لسان حال بقية الأندية "خلينا جنب الحيط".
السوبر ليج، اجتياح قادم في كرة القدم.
بواسطة دعم بنك چي بي مورجان، وهو البنك الذي تلقى 12 مليار دولار من خطة الإنقاذ الحكومية الأمريكية الأمريكية في عام 2008، طل علينا في أبريل/نيسان من العام الماضي مشروع السوبر ليج أو الدوري الممتاز. المسابقة التي سيستمتع أعلى 1% من الأندية الأوروبية في البث والرعاية والإيرادات الأخرى ولكن دون مخاطر أو منافسة حقيقية. هناك أندية دائمين وآخرى متغيرة، وكأن المؤسسين يتفضلون بإدخال بعض من المتوسطين الفقراء حتى يتم يسمح لهم ال 1% بجني بعض الأرباح.
إن تحويل كرة القدم إلى ما يشبه برامج تليفزيون الواقع النيوليبرالي وبرامج الألعاب التي تهمين على العصر الحديث، وهذا ما يمثله السوبر ليج حيث الاتجاه النيوليبرالي وإعادة توزيع الثروة باستمرار لأندية القمم.
وفقًا لتصريحات فلورينتينو بيريز، تضم كرة القدم 4 مليارات مشجع حول العالم وأدعى أن 40% من الأشخاص الذين تترواح أعمارهم بين 16 و24 لم يعودوا مهتمين بكرة القدم، بالاضافة إلى أن مشروع السوبر ليج ينقذ كرة القدم من الموت، وأن تكون كرة القدم أكثر جاذبية على جميع المستويات، لا سيما في جعل المواجهات أكثر حماسية وتشويق عن غيرها. إن الحقيقة التي لن تتغير ويعلمها السيد بيريز أن السوبر ليج لا ينقذ كرة القدم ولكن ينقذ حفنة من الحمقى الذين تسببت قراراتهم بدخول أنديتهم أزمات مالية ضخمة جراء الهوس بالبحث عن الشهرة والفوز بالبطولات بغض النظر عن أي شيء
أيً حلول؟
يقترح البعض استدامة كرة القدم وفصلها عن الرأس مالي واستعادة اللعبة من الشركات والمالكين. تمثل ملكية المُعجبين إحدى الحلول المقترحة لاستعادة اللعبة نسبيًا، ولكن رغم نجاح نموذج ملكية 50+1 في ألمانيا، فإن نماذج ملكية المشجعين في نادي برشلونة وريال مدريد تسلك الضوء على كيفية تفويض هذه الأنواع واستغلالها، لأنه حتى الأندية الجماهيرية المملوكة بالكامل للمشجعين وقعت في نفس المصيدة. وهنا نخلص إلى استنتاج هام، أنه لا يمكن تطبيق العقد الاجتماعي لروسو في كرة القدم، فهي مرايا الرأسمالية في المجتمع.
في الولايات المتحدة، حتى أباطرة الرياضة الساخرون يدركون أن رأسمالية السوق الحرة تخنق المنافسة. يُعد الدوري الوطني الأمريكي لكرة القدم نموذجًا للقدرة التنافسية العدوانية، وليس فقط لأن اللاعبين ذوي اللياقة البدنية الفائقة يضحون بصحتهم من أجل الثروة، و الإشادة، والتركيز المُنصّب على مجد "Super Bowl".
يعتبر اتحاد كرة القدم الأميركي منافسًا لأنه يفرض على فرقه حدًا أقصى صارمًا للراتب، بينما يضمن الأضعف اختيارهم لأفضل اللاعبين الصاعد. لقد ضحت الرأسمالية الأمريكية بالسوق الحرة لإنقاذ المنافسة وتقليل القدرة على التنبؤ وزيادة الإثارة إلى أقصى حد.
إذا كان الهدف هو إقامة دوري كرة قدم مثير ومستدام ماليًا، فإن النموذج الأمريكي هو ما تحتاجه أوروبا. ولكن إذا كان الأوروبيون جادين في ادعائهم أن الأندية يجب أن تنتمي إلى الجماهير واللاعبين والمجتمعات التي يستمدون منها الدعم، فيجب عليهم المطالبة بإزالة أسهم الأندية من البورصة ومبدأ مشاركة عضو واحد، صوت واحد مكرس في القانون.
يبدو أن هذه المحاولة الصارخة لاحتكار كرة القدم بالكامل قد فشلت، لكن كرة القدم لا تزال عالقة في نفس المسار الذي سيعيدها إلى دوري سوبر ليج آخر، فالحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن كرة القدم سُرقت من حقيقتها.